أبسط تعاريف الإيمان ما كتبه الرسول بولس: «وَأَمَّا ٱلإِيمَانُ فَهُوَ ٱلثِّقَةُ بِمَا يُرْجَى وَٱلإِيقَانُ بِأُمُورٍ لاَ تُرَى... بِٱلإِيمَانِ نَفْهَمُ أَنَّ ٱلْعَالَمِينَ أُتْقِنَتْ بِكَلِمَةِ ٱللّٰهِ، حَتَّى لَمْ يَتَكَوَّنْ مَا يُرَى مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ... وَلٰكِنْ بِدُونِ إِيمَانٍ لاَ يُمْكِنُ إِرْضَاؤُهُ، لأَنَّهُ يَجِبُ أَنَّ ٱلَّذِي يَأْتِي إِلَى ٱللّٰهِ يُؤْمِنُ بِأَنَّهُ مَوْجُودٌ» (عبرانيين 11: 1-6)
والإيمان ليس هو ضعف، كما قلت في مكتوبك. على العكس أنه قوة تذلل الصعاب، وتذكي الصبر. وخصوصاً إذا كان المؤمن مصلياً. لأن الذي يصلي بإيمان يشرك الله في شؤونه، فتصبح نواياه طاهرة وأعماله صالحة.
أما الأدلة على صحة هذا التعريف للإيمان فهي:
1 - إن هذا هو المعنى الحقيقي لكلمة إيمان، في كل أبواب البحث. فنؤمن بحوادث تاريخية، بناء على شهادة المؤرحين. ونؤمن بالحقائق العلمية بنا ء على شهادة العلماء. ونؤمن بخبر الخلق، والسقوط والفداء بناء على شهادة الكتب المقدسة، التي أُوحي بها من الله. ومن شهادة الوحي نؤمن بان الله أرسل ابنه يسوع المسيح كفارة لخطايانا. وكذلك نؤمن بكل ما كتبه رجال الله القديسون مسوقين من الروح القدس عن النعمة المجانية، كالتجديد والتبرير والتقديس، واتحاد المؤمنين بالمسيح. وبالقيامة والدينونة. فإن هذه كلها نقبلها بناء على شهادة الله بالوحي المكتوب.
2 - في العهد الجديد نرى أن الإيمان يستند على شهادة الرب يسوع المسيح. فقد قال له المجد لنيقوديموس: «إِنَّنَا إِنَّمَا نَتَكَلَّمُ بِمَا نَعْلَمُ وَنَشْهَدُ بِمَا رَأَيْنَا» (يوحنا 3: 11).
وقال يوحنا المعمدان عن المسيح: «اَلَّذِي يَأْتِي مِنْ فَوْقُ هُوَ فَوْقَ ٱلْجَمِيعِ... وَمَا رَآهُ وَسَمِعَهُ بِهِ يَشْهَدُ، وَشَهَادَتُهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْبَلُهَا. وَمَنْ قَبِلَ شَهَادَتَهُ فَقَدْ خَتَمَ أَنَّ ٱللّٰهَ صَادِقٌ» (يوحنا 3: 31-33).
وكذلك الرسل كانوا شهوداً، فقد عيّنهم الرب الفادي للشهادة إذ قال لهم: «وَتَكُونُونَ لِي شُهُوداً فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ ٱلْيَهُودِيَّةِ وَٱلسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى ٱلأَرْضِ» (أعمال الرسل 1:
.
في الواقع أن أعظم ما اعترض به على رسل المسيح في بلاد اليونان، أنهم لم ينادوا بتعاليمهم كقضايا تستند على البرهان العقلي. وقد أجاب بولس على هذا الاعتراض بقوله: «وَكَلاَمِي وَكِرَازَتِي لَمْ يَكُونَا بِكَلاَمِ ٱلْحِكْمَةِ ٱلإِنْسَانِيَّةِ ٱلْمُقْنِعِ، بَلْ بِبُرْهَانِ ٱلرُّوحِ وَٱلْقُوَّةِ، لِكَيْ لاَ يَكُونَ إِيمَانُكُمْ بِحِكْمَةِ ٱلنَّاسِ بَلْ بِقُوَّةِ ٱللّٰهِ. لٰكِنَّنَا نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةٍ بَيْنَ ٱلْكَامِلِينَ، وَلٰكِنْ بِحِكْمَةٍ لَيْسَتْ مِنْ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، وَلاَ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ، ٱلَّذِينَ يُبْطَلُونَ. بَلْ نَتَكَلَّمُ بِحِكْمَةِ ٱللّٰهِ فِي سِرٍّ: ٱلْحِكْمَةِ ٱلْمَكْتُومَةِ، ٱلَّتِي سَبَقَ ٱللّٰهُ فَعَيَّنَهَا قَبْلَ ٱلدُّهُورِ لِمَجْدِنَا، ٱلَّتِي لَمْ يَعْلَمْهَا أَحَدٌ مِنْ عُظَمَاءِ هٰذَا ٱلدَّهْرِ لأَنْ لَوْ عَرَفُوا لَمَا صَلَبُوا رَبَّ ٱلْمَجْدِ» (1كورنثوس 2: 4-
لكأن الرسول يقول: إن الفلسفة هي الحكمة البشرية، لا تستطيع أن تبلغ القضايا العظمى بالله وبأعماله، وبالخطية والفداء بالصليب وغير ذلك من الأمور التي حسبوها جهالة فقد قالوا أن المبادئ التي نادى بها، لم تكن من حقائق العقل، بل من الإعلان. والتي يجب أن نصدقها لا بناء على مواقفها للعقل، بل بناء على سلطان الله. وأن الرسل مثل سيدهم لم يكونوا فلاسفة بل شهوداً. وأنهم لم يبرهنوا بكلام الحكمة الإنسانية، وإنما نادوا بمشورات الله. وأكدوا أن الإيمان بتعاليمهم يجب أن يكون مبنياً على شهادة الله الصادقة لا على حكمة البشر.
والخلاصة أن موضوع الإيمان هو إعلان الله، وأساسه شهادة الله. فمن قبل هذه الشهادة فقد أقر بأن الله صادق. ومن رفضها يجعله كاذباً. هذا هو تعليم الكتاب المقدس المستمر والأساس الذي يُبنى علي إيماننا.
الإيمان على عدة أنواع، فقد يكون عقلياً، مركزه العقل. فإن كثيرين يعتقدون أن الكتاب المقدس كلام الله، ويقبلون كل تعاليمه، ولكن ذلك لا يكون إلا اعتقاد العقل.
وقد يكون مركزه الضمير، الذي يشهد بصدق الحق، ويحث الإنسان على التسليم والعمل بموجبه. غير أن حث الضمير، فقد يجد مقاومة فلا نعمل بموجبه. وهذا النوع من الإيمان كالزرع، الذي ليس له أصل فيجف بعد قليل وييبس.
وقد يكون الإيمان تصديق الحق، باشتراك العقل والضمير والقلب. لا سيما قبول التعاليم في المسيح وعلم الفداء. فهو يجعلنا متحدين بالمخلص وأعضاء حية في جسده. ويعطينا نصيباً من كل فوائد الفداء، ويعمل بالمحبة، ويثمر أثماراً صالحة. هذا هو الإيمان الصحيح الحي.
ومن نتائج ذلك الإيمان الحي، تقدير النفس على فهم الحقائق الروحية، حتى نرى فضل الحق وجماله، وتميز معناه الروحي. وكذلك نقنع به وتثمر أثمار الإيمان، وهي القداسة.
وذُكر في الكتاب المقدس أن الإيمان هو من ثمار الروح، وأنه هبة من الله (أفسس 2:
وأنه مؤسس على شهادة الروح القدس الذي يقود النفس إلى الإيمان الحي ويحدث تغييراً تاماً فيها.
1 - التصديق، فهو يسلم بصدق الأسفار المقدسة، وبحقيقة الخلاص المعد لنا بالمسيح، وبصحة أنباء الكتاب المقدس بحال الإنسان الطبيعي الساقطة، وحاجته إلى المسيح. على أن هذه الخاصة التي هي عقلية في جوهرها، لا تكفي للخلاص وإنما تهدي الإنسان إلى طريق الإيمان الخلاصي.
2 - الاقتناع العقلي والقلبي بموافقة عمل الفداء لاحتياج النفس الساقطة، والشكر والحمد لله. لأنه أوجد وسيلة للخلاص بالمسيح. وأعدها مجاناً بالنعمة لجنسنا الساقط.
على أن الخلاص لا يتم فقط بالتصديق العقلي، أو بالاقتناع القلبي المقترن بالشكر، وإنما يقود الإنسان إلى نعم خلاصية أخرى.
3 - الاتكال على المسيح، باعتبار كونه ربنا ومخلصنا. وهذا يستلزمنا الاعتراف بآثامنا، وهدم استحقاقنا وقبول المسيح مخلصا شخصياً. والتمسك به واسطة وحيدة للغفران والتكفير عن الذنب، والحياة الروحية، وفقاً للقول الرسولي: «وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ ٱلْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ ٱسْمٌ آخَرُ تَحْتَ ٱلسَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال الرسل 4: 12).
للإيمان موضوعان، موضوع عام يتناول المعلنات الإلهية جميعها، وموضوع خاص هو المسيح الفادي، بمعنى أن الإيمان الخلاصي معتمده الوعد الإلهي بالخلاص بالمسيح. والأدلة على أن هذا هو موضوع الإيمان الخاص كثيرة منها:
1 - شهادة المسيح، فقد قال له المجد: «لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ ٱللّٰهُ ٱبْنَهُ إِلَى ٱلْعَالَمِ لِيَدِينَ ٱلْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ ٱلْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَٱلَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِٱسْمِ ٱبْنِ ٱللّٰهِ ٱلْوَحِيدِ» (يوحنا 3: 17 و18). «لأَنَّ هٰذِهِ هِيَ مَشِيئَةُ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي: أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرَى ٱلٱبْنَ وَيُؤْمِنُ بِهِ تَكُونُ لَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي ٱلْيَوْمِ ٱلأَخِيرِ» (يوحنا 6: 40).
2 - تعليم الرسل، فقد قال الرسول بولس: «وَأَمَّا ٱلآنَ فَقَدْ ظَهَرَ بِرُّ ٱللّٰهِ بِدُونِ ٱلنَّامُوسِ، مَشْهُوداً لَهُ مِنَ ٱلنَّامُوسِ وَٱلأَنْبِيَاءِ، بِرُّ ٱللّٰهِ بِٱلإِيمَانِ بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ... مُتَبَرِّرِينَ مَجَّاناً بِنِعْمَتِهِ بِٱلْفِدَاءِ ٱلَّذِي بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي قَدَّمَهُ ٱللّٰهُ كَفَّارَةً بِٱلإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ ٱلصَّفْحِ عَنِ ٱلْخَطَايَا ٱلسَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ ٱللّٰهِ» (رومية 3: 21-25). «إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ ٱلإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ ٱلنَّامُوسِ» (غلاطية 2: 16).
فكون المسيح بذل نفسه فدية عن كثيرين، فالناس يخلصون باستحقاق بره. ولأنه قدّم نفسه ذبيحة إثم عن خطايانا صار لنا امتياز المصالحة مع الله، وبالتالي يجعلنا نظام الخلاص أن نتكل عليه ونجعله موضوعاً لإيماننا وأساساً لثقتنا.
ويقيناً أن كل مؤمن حقيقي يقبل المسيح، ويتخذه مخلصاً ومنجياً من شر الخطية، ومحرراً من سلطة الشيطان. وأنه يتخذه براً وقداسة وفداء. ويعتبره إلهاً ومخلصاً. وهذا يتضمن الخضوع لكل تعاليمه، والاتكال على بره وفدائه، ووقف النفس لخدمته. وما أجمل أن نقبله كما هو مقدم لنا، نبياً وكاهناً وملكاً، ومصدر السعادة، وموضوع العبادة.
1 -
الاتحاد بالمسيح: كما هو مكتوب: «لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضاً بِقِيَامَتِهِ. عَالِمِينَ هٰذَا: أَنَّ إِنْسَانَنَا ٱلْعَتِيقَ قَدْ صُلِبَ مَعَهُ لِيُبْطَلَ جَسَدُ ٱلْخَطِيَّةِ، كَيْ لاَ نَعُودَ نُسْتَعْبَدُ أَيْضاً لِلْخَطِيَّةِ» (رومية 6: 5 و6). واتحادنا بالمسيح يكون بحلوله فينا وفقاً لقول الرسول: «لِيَحِلَّ ٱلْمَسِيحُ بِٱلإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ، وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي ٱلْمَحَبَّةِ» (أفسس 3: 17 و18).
2 -
التبرير: فقد جاء في الكلمة الرسولية: «إِذاً لاَ شَيْءَ مِنَ ٱلدَّيْنُونَةِ ٱلآنَ عَلَى ٱلَّذِينَ هُمْ فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ، ٱلسَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ ٱلرُّوحِ» (رومية 8: 1) «مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي ٱللّٰهِ؟ اَللّٰهُ هُوَ ٱلَّذِي يُبَرِّرُ! مَنْ هُوَ ٱلَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ ٱلَّذِي مَاتَ، بَلْ بِٱلْحَرِيِّ قَامَ أَيْضاً، ٱلَّذِي هُوَ أَيْضاً عَنْ يَمِينِ ٱللّٰهِ، ٱلَّذِي أَيْضاً يَشْفَعُ فِينَا» (رومية 8: 33 و34).
3 -
السلام: قال الرسول: «فَإِذْ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِٱلإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ ٱللّٰهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلَّذِي بِهِ أَيْضاً قَدْ صَارَ لَنَا ٱلدُّخُولُ بِٱلإِيمَانِ، إِلَى هٰذِهِ ٱلنِّعْمَةِ ٱلَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ» (رومية 5: 1 و2). فالسلام ينشأ عن المصالحة المبنية على وعد الله بأن يصفح عن كل الذين يؤمنون بالشهادة التي شهد بها الله عنن ابنه، ويسامحهم ويقبلهم ويخصلهم. والواقع أن تصديقنا هذا الوعد ونسبتنا إياه إلى أنفسنا هو تصديقنا أننا متصالحون مع الله.
4 -
التقديس: قيل في الكتاب أن الإيمان يعمل بالمحبة (غلاطية 5: 6) وجاء في سفر الأعمال أن الإيمان يطهر قلوبنا (أعمال الرسل 15: 9).
أجل أننا بالإيمان نتبرر، يبررنا دم يسوع المسيح ويطهر قلوبنا من أعمال ميتة لنخدم الله الحي (عبرانيين 9: 14).
5 -
تأكيد الخلاص: فقد قال المسيح: «لأَنَّهُ هٰكَذَا أَحَبَّ ٱللّٰهُ ٱلْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ٱبْنَهُ ٱلْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ ٱلْحَيَاةُ ٱلأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16).